كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وكذلك الشأن في قوله: {ولهم عليَّ ذنب فأخاف أن يقتلون}.. فإن ذكره هنا ليس للخوف من المواجهة، والتخلي عن التكليف. ولكن له علاقة بالإرسال إلى هارون. حتى إذا قتلوه قام هارون من بعده قام هارون من بعده بالرسالة، وأتم الواجب كما أمره ربه دون تعويق.
فهو الاحتياط للدعوة لا للداعية. الاحتياط من أن يحتبس لسانه في الأولى وهو في موقف المنافحة عن رسالة ربه وبيانها، فتبدو الدعوة ضعيفة قاصرة. والاحتياط من أن يقتلوه في الثانية فتتوقف دعوة ربه التي كلف أداءها وهو على إبلاغها واطرادها حريص. وهذا هو الذي يليق بموسى عليه السلام الذي صنعه الله على عينه، واصطنعه لنفسه.
ولما علمه ربه من حرصه هذا وإشفاقه واحتياطه أجابه إلى ما سأل، وطمأنه مما يخاف. والتعبير هنا يختصر مرحلة الاستجابة، ومرحلة الإرسال إلى هارون، ومرحلة وصول موسى إلى مصر ولقائه لهارون؛ ويبرز مشهد موسى وهارون مجتمعين يتلقيان أمر ربهما الكريم، في نفس اللحظة التي يطمئن الله فيها موسى، وينفي مخاوفه نفياً شديداً، في لفظة تستخدم أصلاً للردع وهو كلمة {كلا}!
{قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل}.
كلا. لن يضيق صدرك ويحتبس لسانك. وكلا لن يقتلوك.
فأبعد هذا كله عن بالك بشدة. واذهب أنت وأخوك. {فاذهبا بآياتنا} وقد شهد موسى منها العصا واليد البيضاء والسياق يختصرهما هنا لأن التركيز في هذه السورة موجه إلى موقف المواجهة وموقف السحرة وموقف الغرق والنجاة. اذهبا {إنا معكم مستمعون} فأية قوة؟ وأي سلطان؟ وأي حماية ورعاية وأمان؟ والله معهما ومع كل إنسان في كل لحظة وفي كل مكان. ولكن الصحبة المقصودة هنا هي صحبة النصر والتأييد. فهو يرسمها في صورة الاستماع، الذي هو أشد درجات الحضور والانتباه. وهذا كناية عن دقة الرعاية وحضور المعونة. وذلك على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
اذهبا {فأتيا فرعون} فأخبراه بمهمتكما في غير حذر ولا تلجلج: {فقولا إنا رسول رب العالمين} وهما اثنان ولكنهما يذهبان في مهمة واحدة برسالة واحدة. فهما رسول. رسول رب العالمين. في وجه فرعون الذي يدعي الألوهية، ويقول لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} فهي المواجهة القوية الصريحة بحقيقة التوحيد منذ اللحظة الأولى، بلا تدرج فيها ولا حذر. فهي حقيقة واحدة لا تحتمل التدرج والمداراة.
{إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل}.. وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى عليه السلام في القرآن، أنه لم يكن رسولاً إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته. إنما كان رسولاً إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون. وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد.
وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف. ولكن الستار يسدل. لنجدنا أمام مشهد المواجهة. وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية:
{قال ألم نُرَبِّكَ فِينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذن وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وتلك نعمه تمنها علي أن عَبَّدتَّ بني إسرائيل}.
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجه بهذه الدعوى الضخمة: {إنا رسول رب العالمين}. ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! {أن أرسل معنا بني إسرائيل}. فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته. وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي. وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً:
{قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين}.
فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟ ولتخرج على الملك الذي نشأت فيه بيته، وتدعو إلى إله غيره؟!
وما بالك وقد لبثت فينا من عمرك سنين لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟!
ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: {وفعلت فعلتك التي فعلت}.. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها {وأنت من الكافرين} برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين!
وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه رداً قاتلاً لا يملك موسى عليه السلام معه جواباً، ولا يستطيع مقاومة. وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء الكلمات!
ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه انطلق يجيب:
{قال فعلتها إذن وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل}..
فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. {ففررت منكم لما خفتكم} على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة {وجعلني من المرسلين} فلست بدعاً من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل {من المرسلين}.
ثم يجيبه تهكماً بتهكم. ولكن بالحق. {وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل}.. فما كانت تربيتي في بيتك وليداً إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!
عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم:
{قال فرعون وما رب العالمين}..
إنه قبحه الله يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث!
فيجيبه موسى عليه السلام بالصفة المشتملة على ربوبيته تعالى للكون المنظور كله وما فيه:
{قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}..
وهو جواب يكافئ ذلك التجاهل ويغطيه.. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك يا فرعون ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل.
وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى عليه السلام يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه.. فهو رب العالمين!.. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته: {إن كنتم موقنين} فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.
والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب:
{قال لمن حوله ألا تستمعون}..
ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه!
ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.
{قال ربكم ورب أبائكم الأولين}..
وهذه أشد مساساً بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده. لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين. فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين!
وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون:
{قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}..
إن رسولكم الذي أرسل إليكم.. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى عليه السلام بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.
ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين:
{قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}..
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم؛ ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافية إيقاظاً. وموسى عليه السلام يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير: {إن كنتم تعقلون}..
والطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية.
ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عندما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عندما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:
{قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}..
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد!
غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه.. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد:
{قال أولو جئتك بشيء مبين}..
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إحراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى؛ ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون. ومن ثم وجد نفسه مضطراً أن يطلب منه الدليل:
{قال فأت به إن كنت من الصادقين}..
إن كنت من الصادقين في دعواك؛ أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئاً مبيناً. فهو ما يزال يشكك في موسى، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئاً.
هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين؛ وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه:
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}..
والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلاً إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا. يدل على هذا بقوله: {فإذا هي} فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.
ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها بالا، لطول الألفة والتكرار، أو لأنهم لا يشهدون التحول على سبيل التحدي فاما في مثل هذا المشهد. وموسى عليه السلام يلقي في وجه فرعون بهاتين الخارقتين فالأمر يزلزل ويرهب.
وقد أحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها؛ فأسرع يقاومها ويدفعها؛ وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق القوم من حوله؛ ويهيج مخاوفهم من موسى وقومه، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة:
{قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون}..
وفي قولة فرعون هذه يبدو إقراره بعظمة المعجزة وإن كان يسميها سحراً؛ فهو يصف صاحبها بأنه ساحر {عليم}. ويبدو ذعره من تأثر القوم بها فهو يغريهم به: {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره}.
ويبدو تضعضعه وتهاويه وتواضعه للقوم الذين يجعل نفسه لهم إلها، فيطلب أمرهم ومشورتهم: {فماذا تأمرون} ومتى كان فرعون يطلب أمر أتباعه وهم له يسجدون!
وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى. ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!
وأشار عليه الملأ؛ وقد خدعتهم مكيدته، وهم شركاء فرعون في باطله، وأصحاب المصلحة في بقاء الأوضاع التي تجعلهم حاشية مقربة ذات نفوذ وسلطان؛ وقد خافوا أن يغلبهم موسى وبنو إسرائيل على أرضهم لو اتبعتهم الجماهير، حين ترى معجزتي موسى وتسمع إلى ما يقول.. أشاروا عليه أن يلقى سحره بسحر مثله، بعد التهيئة والاستعداد:
{قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم}..
أي أمهله وأخاه إلى أجل؛ وابعث رسلك إلى مدائن مصر الكبرى، يجمعون السحرة المهرة، لإقامة مباراة للسحر بينهم وبينه.